كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلق السموات وهو قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم} في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك {سبع طرائق} أي: سموات جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم، وقيل: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها، وقيل: لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة {وما كنا} أي: بمالنا من العظمة {عن الخلق} أي: الذي خلقناه تحتها {غافلين} أي: أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.
النوع الثالث من الدلائل: الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات، وهو قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء} أي: من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه {ماء بقدر} أي: بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار {فأسكناه} أي: فجعلناه ثابتًا مستقرًا {في الأرض} كقوله تعالى: {فسلكه ينابيع في الأرض} [الزمر]، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا العراق، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء وذلك قوله تعالى: {وإنا على ذهاب به لقادرون} قدرة هي في نهاية العظمة، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا»؛ قال البغوي: وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن على عن مقاتل بن حبان.
تنبيه:
في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى: {قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين} [الملك]. فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى: {فأنشأنا} أي: فأخرجنا وأحيينا {لكم} خاصة لا لنا {به} أي: بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي {جنات} أي: بساتين {من نخيل وأعناب} صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى: {لكم} أي: خاصة {فيها} أي: الجنات {فواكه كثيرة} تتفكهون بها {ومنها} أي: ومن الجنات من ثمارها وزروعها {تأكلون} رطبًا ويابسًا وتمرًا وزبيبًا، وقوله تعالى: {وشجرة} عطف على جنات أي: وأنشأنا لكم شجرة أي: زيتونة {تخرج من طور سيناء} وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل: بفلسطين، وفي رواية أخرى: طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسمًا للجبل مركبًا من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون لم يصرفه؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء؛ قال مجاهد: معناه البركة أي: من جبل مبارك، وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن، وقال الضحاك: هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة: بالحبشية، وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تنبت} بضم التاء الفوقية، وكسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى: {بالدهن} تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت؛ ولأنّ معظمها هناك.
قال بعض المفسرين: وإنما عرف الدهن؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى: {وصبغ للآكلين} عطف على الدهن أي: إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت؛ قيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة} [النور].
النوع الرابع من الدلائل: الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره {نسقيكم مما في بطونها} أي: اللبن نجعله لكم شرابًا نافعًا للبدن موافقًا للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم {ولكم فيها} أي: جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيمًا لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم {منافع كثيرة} باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها {ومنها تأكلون} أي: وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضًا بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذرًا لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.
{وعليها} أي: الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل: المراد الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى: {وعلى الفلك تحملون} لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى:
سفينة بر تحت خدي زمامها

قال الزمخشري: يريد صيدحه أي: ناقته؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال:
رأيت الناس ينتجعون غيثًا ** فقلت لصيدح انتجعي بلالا

يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة، ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئًا بقصة نوح عليه السلام، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحًا} وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحًا لوجوه: أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها: لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها: أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. {إلى قومه} وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء {فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ قال: {يا قوم} ترفقًا بهم {اعبدوا الله} وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله: {ما لكم من إله} أي: معبود بحق {غيره} فلا تعبدوا سواه {أفلا تتقون} أي: أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما.
{فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال: {الملأ} أي: الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة {الذين كفروا من قومه} لعوامهم {ما هذا} أي: نوح عليه السلام {إلا بشر مثلكم} أي: فلا يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبيًا، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنسانًا وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل: ما حمله على ذلك فقالوا: {يريد أنّ يتفضل} يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا {عليكم} لتكونوا أتباعًا له ولا خصوصية له دونكم {ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره {لأنزل} كذلك {ملائكة} رسلًا بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري: وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر {ما سمعنا بهذا} أي: الذي دعا إليه نوح من التوحيد {في آبائنا الأولين} أي: الأمم الماضية.
{إن} أي: ما {هو إلا رجل به جنة} أي: جنون ولأجله يقول ما يدعيه {فتربصوا به} أي: فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه {حتى} أي: إلى {حين} لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} عندما أيس من فلاحهم {رب انصرني} أي: أعني عليهم {بما كذبون} أي: بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.
{فأوحينا} أي: فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا {إليه أنّ اصنع الفلك} أي: السفينة {بأعيننا} أي: إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء، فثق بحفظنا ولا تخف شيئًا من أمرهم، روي أنه لما أوحي إليه أنّ يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر؛ قال الجوهري: جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى: {ووحينا} أي: وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة، ووصف كيفية اتخاذها له، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود {فإذا جاء أمرنا} أي: بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب {وفار التنور} قال ابن عباس: وجه الأرض، وفي القاموس: التنور الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وعن قتادة: أنه أشرف موضع في الأرض أي: أعلاه، وعن علي: طلع الفجر، وعن الحسن: أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه، وقيل: هو مثل كقولهم: حمي الوطيس، والأقرب كما قال الرازي، وعليه أكثر المفسرين، هو التنور المعروف بتنور الخباز، فيكون له فيه آية، روي أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته، فركب وقيل: كان تنور آدم، وكان من حجارة، فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد، وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقيل: بالهند.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل {فاسلك} أي: أدخل {فيها} أي: السفينة {من كل زوجين} من الحيوان {اثنين} ذكرًا وأنثى، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي: من كل نوع زوجين، فزوجين مفعول واثنين تأكيد، والباقون بغير تنوين، فاثنين مفعول، ومن متعلق بـ اسلك، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب يده في كل جمع، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض {وأهلك} أي: وأهل بيتك من زوجك وأولادك {إلا من سبق عليه} لا له {القول منهم} بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة، وفي سورة هود {ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود]. قيل: كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء {ولا تخاطبني} أي: بالسؤال في النجاة {في الذين ظلموا} أي: كفروا، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنهم مغرقون} أي: قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، فإنه تعالى بعد أنّ أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالًا ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أنّ يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل، ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى: {فإذا استويت} أي: اعتدلت {أنت ومن معك} أي: من البشر وغيرهم {على الفلك} ففرغت من امتثال الأمر بالحمل {فقل الحمد لله} أي: الذي لا كفء له؛ لأنه مختص بصفات الحمد {الذي نجانا} بحملنا فيه {من القوم} أي: الأعداء الأغبياء {الظالمين} أي: الكافرين لقوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام].